العالم الخفي لهاروكي موراكامي.
الكاتب في أسلوبه وعمله والأماكن المظلمة والغريبة التي يكتبها في صفحاته.
” من هو؟ هل هو شخص لطيف؟” سألني أحد المسؤولين القلقين الذي كلفني بالتوجه إلى مكتب هاروكي موراكامي، مكتبه يقع في مبنى غير معروف في شارع فرعي في حي أوياما في طوكيو. تراجعت بوضوح عندما أجابت مساعدة موراكامي على الباب واستقبلتني ثم أرسلتني لمحطة قطار قريبة للانتظار حتى يحين موعد الغداء. كان ذلك في سنة 2010، وأثناء ذلك الوقت في اليابان كان موراكامي من المشاهير الكبار الذين لا مثيل لهم في العالم الأدبي. روايته العملاقة الثلاثية “1Q84” التي نشرت بين عامي 2009 و2010 وبيع منها أكثر من ستة ملايين نسخة في البلاد. عند مشاركته في مهرجان نيويوركر عام 2008، نفذت التذاكر في دقائق، وزعم المشجعون أنهم سافروا إلى نيويورك من اليابان وكوريا وأستراليا لرؤيته شخصياً، قطعوا هذه المسافة لأن موراكامي وبالرغم من شهرته، نادرا ما يشارك في المناسبات العامة.
عبّر عن دهشته وارتباكه تجاه تجاوب الجمهور منقطع النظير بعد أولى محاولاته في كتابته للخيال، ولعل هذا الارتباك هو ما بث شيئا في نفسه. يغلب على رواياته طابع الفضول والاستكشاف. فأبطاله إما تعساء أو مسيّرين ينطلقون في رحلات استكشافية، حيث ينتهي بهم المطاف في أماكن مألوفة أو أماكن غريبة في كل زواياها. موراكامي كاتب ذو أسلوب خفي ورجل تقوده إرادته، هو سيد في كل من التشويق وعلم الاجتماع، لغة كتاباته وكأنها شاشة عادية تخفي وراءها أسرار، في مخيلته كتب عن الخراف الوهمية، الأرواح التي تلتقي في العالم السفلي، عن الاشخاص القلة الذين يخرجون من لوحاته التي جسدها، لكن تحت الصور المثيرة غالبا ما يشبه الحلم. إن عمله في الغالب ما هو إلا دراسة عن التواصل المفقود من الكوميديا والمأساة الناتجة عن فشلنا لفهم بعضنا البعض.
“عدّلت هذه المقابلة مع هاروكي موراكامي، من المحادثات التي أجريناها في مهرجان نيويوركر في عامي 2008 و2018.”
هاروكي موراكامي: آخر مرة أجرينا فيها مقابلة كانت قبل عشر سنوات، وحدثت أشياء مهمة كثيرة في تلك السنوات العشر. على سبيل المثال الآن أنا كبرت عشر سنوات. هذا أمر مهم للغاية – على الأقل لي أنا. أتقدم في العمر يومًا بعد يوم، ومع تقدمي في العمر أرى نفسي اليوم مختلفًا عما كنت عليه في الصغر. في هذه الأيام، أحاول أن أكون رجل وقور. كما تعلمين، ليس من السهل أن تكون رجلا وقورا وروائيًا. الأمر مثل سياسي يحاول أن يكون “أوباما وترامب”. لكن لدي تعريف للروائي الوقور: أولاً، لا يتحدث عن دخله الضريبي الذي يدفعه. ثانياً، لا يكتب عن حبيباته السابقات أو زوجاته. وثالثا، لا يفكر في جائزة نوبل للآداب. لذا ديبورا، من فضلك لا تسأليني عن هذه الأشياء الثلاثة وإلا سأتورط.
ديبورا تريسمان: استنزفت مخزوني من الأسئلة! في الواقع أردت أن أبدأ بروايتك الأخيرة، روايتك الجديدة،”Killing Commendatore، مقتل الكومنداتور”. الرواية تدور حول رجل تتركه زوجته، فينتهي به المطاف يعيش في منزل فنان قديم، رسام. وعند وصوله إلى ذلك المنزل، تحدث أشياء غريبة كثيرة له، ويبدو أن بعضها ينبعث من ثقب في الأرض، نوع من البئر الفارغة.أنا أتساءل كيف توصلت إلى هذا المنطلق للرواية.
كما تعلمين أنها رواية كبيرة، واستغرق الأمر مني سنة ونصف للكتابة أو أكثر، بدأت بفقرة أو فقرتين. كتبت تلك الفقرات ووضعتها في درج مكتبي ونسيت أمرهم. بعد ذلك، ربما بعد ثلاثة أشهر أو ستة. أتتني فكرة أنه يمكنني تحويل تلك الفقرات إلى رواية، وبدأت بالكتابة. لم تكن لدي أي مخططات، لم يكن لدي جدول زمني، ولم يكن لدي أي حبكة للقصة. بدأت من تلك الفقرات وانكببت بالكتابة. قادتني القصة إلى النهاية. إذا كانت لديك خطة – إذا كنت تعرف النهاية عندما تبدأ – فلن تستمع عند الكتابة. كما تعلمين، قبل أن يبدأ الرسام بالرسم يخطط لرسم لوحته، أما أنا لا أفعل ذلك. لدي لوحة بيضاء، لدي فرشاة رسم، وأرسم الصورة فحسب.
يوجد شخصية -أو فكرة- في الرواية تأخذ شكل المؤدي المسرحي مقتبسة من أوبرا موزارت “دون جيوفاني”. لماذا هذه الشخصية -أو الفكرة- تتمركز في الرواية؟
عادةً ما أبدأ بعنونة رواياتي. في هذه الحالة، كان لدي عنوان “مقتل الكومنداتور”، وكانت لدي أولى فقرات الرواية، وكنت أتساءل عن نوع القصة التي يمكن أن أكتبها. لا يوجد شيء مثل “قائد الفرسان” في اليابان، لكنني شعرت بغرابة العنوان وأنا أقدر تلك الغرابة كثيراً.
هل أوبرا “دون جيوفاني” مهمة لك؟
الشخصية مهمة جدا لي. لا أستخدم النماذج عموما. في مسيرتي المهنية، استخدمت نموذجًا لشخصية واحدة فقط – كان شخصًا سيئًا، شخصًا لم يعجبني كثيرًا، وأردت الكتابة عنه، ولكن ذلك كان مرة واحدة فقط. جميع الشخصيات الأخرى في كتبي قد تكونت من العدم، من الصفر.. بمجرد أن أصنع شخصية، تتحرك تلقائيا، وكل ما عليّ فعله هو مشاهدتها تتحرك وتتحدث وتفعل الأمور. أنا كاتب، وأكتب، ولكن في الوقت نفسه أشعر كما لو كنت أقرأ كتابًا مشوّق ومثير للاهتمام. لذلك أنا أستمتع بالكتابة.
الشخصية الرئيسة في الرواية يستمع إلى الأوبرا، فضلا عن مختلف القطع الموسيقية الأخرى التي ذكرتها في الكتاب. في كثير من الأحيان تستمع شخصياتك إلى فرق موسيقية أو أنواع معينة من الموسيقى، هل هذا يساعدك في معرفة من هم؟
أنا أستمع للموسيقى أثناء كتابتي، وبطبيعة الحال سأذكرها في مؤلفاتي. لا أفكر كثيرا في نوع الموسيقى، ولكنها تعتبر كنوع من الطعام، فهي تمدني بالطاقة للكتابة، لذا عادةً أكتب عن الموسيقى، وغالبا أكتب عن الموسيقى التي أحب، إنها مفيدة لصحتي.
الموسيقى تحافظ على صحتك؟
نعم، وبشدة. الموسيقى والقطط. قدموا لي الكثير من المساعدة.
كم قطة تملك؟
لا أملك أي قط، لكن عندما أمارس رياضة الركض كل صباح حول منزلي أرى كل يوم ثلاث أو أربع قطط، هم أصدقائي فقط. أتوقف لألقي عليهم التحية ويأتون لي، نحن نعرف بعضنا البعض. نألف بعضنا.
عندما نشرت نيويوركر مقتطفًا من “مقتل الكومنداتور”، سألتك عن العناصر غير الواقعية في عملك. أجبت، “عندما أكتب الروايات، فمن الطبيعي أن الحقيقة والخيال يختلطان معًا. ليس الأمر كما لو كانت هذه خطتي وأتبعها أثناء كتابتي، ولكن كلما حاولت الكتابة عن الواقع بواقعية، كلما ظهر العالم غير الحقيقي أكثر. بالنسبة لي، الرواية تشبه الحفل. يمكن لأي شخص يرغب في الانضمام بالانضمام، ويمكن لأولئك الذين يرغبون في المغادرة أن يغادروا متى أرادوا ذلك”. إذا، كيف تدعو الناس والأشياء إلى هذا الحفل؟ أو كيف يمكنك الوصول إلى مكان ما عندما تكتب بحيث يمكنهم الحضور دون دعوة؟
يخبرني القراء غالبا أن هناك عالماً غير واقعي في أعمالي -أن يذهب البطل إلى ذلك العالم ثم يعود إلى العالم الحقيقي. لكنني لا أستطيع دائمًا رؤية الحد الفاصل بين العالم الحقيقي والعالم غير الحقيقي. لذلك، في كثير من الحالات، يُخلط بينهم. في اليابان، أعتقد أن العالم الآخر قريب جدًا من حياتنا الحقيقية، وإذا قررنا الذهاب إلى الجانب الآخر فهذا ليس بالأمر الصعب. لدي انطباع أنه في العالم الغربي ليس من السهل الذهاب إلى الجانب الآخر. عليك أن تمر ببعض التجارب للوصول إليه. لكن في اليابان، إذا ما كنت تريد الذهاب إلى هناك، ستذهب. لذا، في قصصي، إذا ما ذهبت إلى أسفل البئر، فهناك عالم آخر. ولا يمكنك بالضرورة معرفة الفرق بين الجانبين.
الجانب الآخر، هل هو مكان مظلم عادةً؟
ليس بالضرورة. أعتقد أن الأمر يتعلق أكثر بالفضول. إذا كان هناك باب، وتستطيع فتحه والدخول لذلك المكان الآخر، فستفعل. انه مجرد فضول. ماذا يوجد في الداخل؟ ماذا يوجد هناك؟ هذا ما أفعله كل يوم. عندما أكتب رواية، أستيقظ حوالي الرابعة صباحًا وأذهب إلى مكتبي وأبدأ العمل. هذا ما يحدث في العالم الواقعي. أنا أشرب القهوة الحقيقية. ولكن بمجرد أن أبدأ بالكتابة، أذهب إلى مكان آخر. أفتح الباب وأدخل إلى هذا المكان وأشاهد ما الذي يحدث هناك. لا أعلم -أو لا أهتم- إذا ما كان العالم واقعيًا أم غير واقعي. أذهب أعمق وأعمق، وأنا أركز على الكتابة، إلى نوع من الخِفية. بينما أنا هناك، أواجه أشياء غريبة، لكن حينما أراها، وفي عيني أراها طبيعية. وإن كان هناك ظلام، فإن هذا الظلام يأتي إلي، ربما يحمل معه رسالة، هل تعلمين! أحاول فهم رسالته. لذلك أنظر في أرجاء العالم وأصف ما أراه، ثم أعود، العودة مهمة، إذا لم تستطع العودة فهذا أمر مخيف، لكنني محترف، لذا يمكنني العودة.
وتجلب أشياءً معك من الجانب الآخر؟
لا، فجلبها شيء مخيف، أترك كل شيء في مكانه. عندما لا أكتب، فأنا شخص عادي جدًا، أحترم الروتين اليومي، أستيقظ في الصباح الباكر، أذهب إلى الفراش حوالي الساعة التاسعة، ما لم تكن مباراة كرة القاعدة مستمرة، أركض أو أسبح، أنا رجل عادي. لذا عندما أسير في الشارع ويقول أحدهم: “عفواً يا سيد موراكامي، من الرائع أن أقابلك” أشعر بغرابة كما تعلمين، أنا لست مميزًا فلماذا هو سعيد بمقابلتي؟ ولكن أعتقد أني عندما أكتب، فأنا مميز أو على الأقل أكون غريب الأطوار.
تحدثت عدة مرات وأنت تحكي لنا عن قصة، منذ أربعين سنة وأنت في مباراة كرة القاعدة، فكرت فجأة “أستطيع كتابة رواية”، بالرغم من أنك لم تحاول الكتابة من قبل، وقلت في مذكراتك بعنوان “ما الذي أتحدث عنه عندما أتحدث عن الجري” ” شعرت كما لو أن شيئا ما يرفرف في السماء ونزل فأمسكته في يدي بوضوح”. كان هذا الأمر.. القدرة على الكتابة أو ربما الفكرة التي يمكنك تجربتها. من أين تعتقد انها جاءت؟ ولماذا أتت إليك إذا كنت شخص عادي؟
إنه نوع من الإلهام – هذا ما كان عليه الأمر. أنا أحب كرة القاعدة، وأذهب إلى الملعب كثيرًا. في عام 1978، عندما كنت في التاسعة والعشرين من عمري، ذهبت إلى حديقة كرة القاعدة في طوكيو لرؤية فريقي المفضل،” Yakult Swallows”. كان يوم الافتتاح يوم مشمس للغاية، كنت أشاهد المباراة وفي المعركة الأولى أحرزوا هجمة مزدوجة، وفي تلك اللحظة شعرت أنني قادر عل الكتابة. ربما شربت الكثير من الجعة -لا أعرف- لكن في ذلك الوقت كان الأمر يبدو وكأنني أُلهمت. قبل ذلك لم أكتب أي شيء على الإطلاق. كنت أملك نادي للجاز، وكنت مشغولاً للغاية بإعداد مشروبات الكوكتيلا والشطائر، أعِد شطائر لذيذة! لكن بعد تلك المباراة ذهبت إلى القرطاسية واشتريت بعض اللوازم، ثم بدأت بالكتابة وأصبحت كاتبًا.
كان ذلك قبل أربعين سنة، كيف تغيرت الكتابة منذ ذلك الوقت حتى الآن؟
أنا تغيرت كثيرا. عندما بدأت بالكتابة، لم أكن أعرف كيف أكتب -كتبت بطريقة غريبة جدًا، ولكنها أعجبت الناس فعلاً. الآن لا أهتم كثيراً لروايتي الأولى “Hear the Wind Sing” “أسمع صوت أغنية الريح”، كان من السابق للأوان نشرها. قبل عدة سنوات، كنت جالساً في القطار في طوكيو، وأنا أقرأ كتاباً، جاءتني فتاة حسناء، وقالت: “هل أنت السيد موراكامي؟”،”نعم، أنا السيد موراكامي.” “أنا من أشد المعجبين بكتابك”،” شكرا جزيلا.” ” لقد قرأت كل رواياتك، فقد أحببتها.” ” شكرا، أنا أقدر ذلك.” ثم قالت:” أحببت روايتك الأولى كثيرا – وهي أفضلهم، على ما أعتقد.” ” أوه، هل تعتقدين ذلك؟”. وقالت:” ومن بعدها بدأت رواياتك تصبح أسوأ “. لا بأس فقد اعتدت على النقد، لكنني لا أوافقها الرأي. أعتقد أنني أتحسن. منذ أربعين سنة وأنا أحاول التحسن، وأعتقد أنني نجحت في ذلك.
تلك الفتاة في القطار جعلتني أفكر في عازف موسيقى الجاز الذي كان اسمه جين كويل، كان عازف آلة ساكسفون شهير في الخمسينات والستينات الميلادية. ومثل أي عازف ساكسفون آخر في تلك الأيام، كان متأثرًا جدًا بتشارلي باركر. في أحد الليالي، كان يعزف في نادي الجاز في نيويورك، وفيما كان يغادر المنصة، جاء إليه شاب وقال له: “مهلا، كل ما تفعله هو العزف مثل تشارلي باركر”. قال له جين “ماذا؟” قال: “كل ما تفعله هو العزف مثل تشارلي باركر”. قام جين بتثبيت أداة العزف ساكسفون، وقال إلى الرجل: “هاك، هلا عزفت مثل تشارلي باركر!” أعتقد أن هناك ثلاث جوانب لهذه الحكاية: الأول، من السهل انتقاد الآخرين. الثاني، من الصعب تأليف شيء أصيل. الثالث، شخصٌ ما لابد أن يتجرأ ويفعل ذلك. وأنا كنت أكتب ذلك لمدة أربعون عاما، انها وظيفتي. أعتقد أنني مجرد رجل يفعل ما يجب على أحد ما فعله، مثل تنظيف المزاريب أو جمع الضرائب. لذا، إذا كان أحدهم ينتقدني، فسوف أمسك بقلمي وأقول، “هاك، أنت أكتب!”
قلت إن كتابة أول روايتين كانتا في غاية السهولة، وبعد ذلك أصبح الأمر أصعب قليلا. ما الذي عانيت منه؟
عندما كتبت أول كتابين “أسمع صوت أغنية الريح” و”لعبة البينبول Pinball،1973 ” كان من السهل الكتابة، ولكني لم أكن راضيا عنهما، وما زلت. بعد كتابة هاتين الروايتين أصبحت أكثر طموحا. كتبت “مطاردة الخرفان الجامحة” “A Wild Sheep Chase”، أول رواية طويلة، (أما الأوليتين فكانتا أشبه بالقصص القصيرة). استغرق الأمر بعض الوقت -ثلاث أو أربع سنوات- على ما أعتقد، وكان يجب علي أن أبذل كل ما بوسعي كي أصل إلى النجاح، لذا أعتقد أن “مطاردة الخرفان الجانحة” كانت نقطة البداية لمسيرتي الحقيقية. في الثلاث السنوات الأولى كنت أكتب بينما أدير نادي الجاز. كنت أنهي عملي في الساعة الثانية صباحا ثم أجلس للكتابة على طاولة المطبخ. وكان هذا مرهقا. بعد أول كتابين، قررت أن أبيع النادي وأصبح كاتبا متفرغا، ولكن نادي الجاز كان ناجحا، فنصحني الجميع بعدم بيعه.
لا تترك وظيفتك اليومية!
بعد كتابتي لرواية “مطاردة الخرفان الجامحة” أردت أن أكتب رواية طويلة.
هل كانت كتابة الروايات الطويلة سهلة عليك أم كانت أكثر تحديا؟
عندما كتبت “مطاردة الخرفان الجامحة” كنت متحمسًا جدًا، لأنني لم أكن أعرف ما الذي سيحدث بعد ذلك. لم أستطع الانتظار حتى يأتي الغد لأتمكن من معرفة ما سيحدث، كنت أرغب في تقليب الصفحات، ولكنها كانت فارغة وكان عليّ أن أكتبها.
هل مرت عليك أيام لم تعرف ما هي الأحداث القادمة؟ تجلس ولا يمكنك الكتابة في ذلك اليوم؟
لم أشعر يوما بأي حاجز يمنعني من الكتابة. بمجرد جلوسي على مكتبي أعلم ما الذي سيحدث بعد ذلك. إذا لم أكتب أو لم أرغب في كتابة شيئا ما، فلن أكتب. المجلات تطلب مني دائما كتابة شيئا ما، وانا دائما أرفض. فأكتب ما أريد كتابته، في الوقت الذي أريد، بالطريقة التي أحبها.
هل تراودك حبكات رواياتك في أحلامك؟
لا، لا أعتقد ذلك، أنا لا أحلم، القصص هي قصص، والأحلام هي أحلام، والكتابة بحد ذاتها أشبه بالحلم. عندما أكتب يمكنني أن أحلم عن قصد، يمكنني أن أبدأ الحلم، وأستمر فيه وأوقفه وأستمر فيه في اليوم التالي باختياري. عندما تكون نائما وتحلم حلما جميلا، تحلم بشريحة لحم كبيرة أو زجاجة جعة رائعة أو فتاة جميلة، وتستيقظ، فيذهب الحلم. أما أنا أحلامي تستمر لليوم التالي.
قبل بضع سنوات أخبرتني أنك عندما تؤلف رواية، فأنت تحتفظ بقائمة من الأفكار أو العبارات، مثل “قرد يتحدث” أو “رجل يختفي على الدرج”، عندما تنتهي من الرواية وتجلس لكتابة القصص، تقول “يجب على كل قصة أن تتضمن على شيئين أو ثلاثة من هذه القائمة”. هل تستخدم هذه الطريقة كثيرا؟
كان ذلك عندما كتبت ست قصص في وقت واحد، لذا احتجت الى هذه العبارات الرئيسية لمساعدتي. عندما أكتب رواية أنا لا أحتاج ذلك. قاعدتي هي تجربة شيء جديد كل مرة. معظم رواياتي الأولى كتبتها بصيغة المتكلم، في كتاب “1Q84” كتبتها بصيغة المخاطب، وكان ذلك بمثابته التحدي لي. في أغلب الأحيان الراوي بطل روايتي شخص كان من الممكن أن يكون أنا (أنا أتقمص شخصية الراوي الذي هو بطل الرواية)، لكنه ليس أنا، بديل لي. هل تعلمين؟ في الحياة أنا نفسي ولا أستطيع أن أكون شخصا آخر، ولكن في الخيال، أستطيع أن أكون أي شخص، أضع نفسي في مكان أي شخص آخر. بإمكانك اعتباره نوع من أنواع العلاج، فإذا كنت تكتب، إذًا أنت لست بثابت، تستطيع أن تكون أي شخص آخر، وهذا متاح لك.
بدأت بممارسة رياضة الركض في نفس الوقت الذي بدأت فيه بالكتابة، وأعرف بعض الأشخاص يحبون الكتابة في مخيلتهم أثناء مشيهم، وتيرة المشي تساعدهم على ذلك. هل تفكر بالكتابة أثناء الركض؟
لا على الإطلاق. عندما أركض فأنا فقط أركض، أفرّغ عقلي. وليس لدي أي فكرة عما أفكر به حين أركض، ربما لا شيء. ولكن كما تعلمين، يجب عليك أن تكون قويا لتكتب لفترة طويلة. كتابة كتاب واحد ليس بالأمر الصعب، ولكن الاستمرار في الكتابة لعدة سنوات أشبه ما يكون للمستحيل. أنت بحاجة للقوة وللتركيز والتحمل، انا أكتب أشياء تشوش العقل أحيانا، وأشياء غريبة وملتوية، وأعتقد يجب ان تكون في كامل صحتك للكتابة عن الأشياء المشوشة للعقل. فالأمر متناقض، لكنه صحيح. بعض الكتاب عاشوا حياة مليئة بالسقم – مثل بودلير. ولكن في رأيي، تلك الأيام ولّت. هذا العالم معقد جدا، ويجب عليك أن تكون قوياً من أجل البقاء، ومن أجل التغلب على الفوضى. أصبحت كاتبًا عندما كنت في الثلاثين من عمري، وبدأت في الركض عندما كنت في الثانية أو الثالثة والثلاثين. قررت البدء بالعمل كل يوم لأنني أردت أن أرى ما الذي سيحدث. أعتقد أن الحياة أشبه بالمختبر تستطيع تجربة أي شيء. وفي النهاية أعتقد أنه كان عائدا بالفائدة عليّ لي، لأنني أصبحت أقوى.
الكتابة مثل الركض، سعيٌ فردي. انتقلت من نمط حياة اجتماعي في نادي الجاز -حيث دائما كنت محاطًا بالأشخاص- وانتقلت إلى مكتبك. أيهما تجد فيه راحتك أكثر؟
أنا لست رجلًا اجتماعيا بطبعي. أحب أن أكون لوحدي في مكان هادئ مع الموسيقى وربما القطط، والتلفاز لمشاهدة كرة القاعدة. أظن أن هذا هو كل ما أريده.
قلت مرة أن حلم حياتك هو الجلوس في قاع بئر، وعدد من الشخصيات في رواياتك فعلت الأمر ذاته، هناك شخصية في “مقتل الكومنداتور” – مِنشيكي – فعلها. لماذا؟
أحب الآبار كثيرا، أحب الثلاجات، أنا أحب الفِيلة. هناك العديد من الأشياء التي أحبها. عندما أكتب عن الأشياء التي أحبها أكون سعيد. عندما كنت طفلا، كان هناك بئر في منزلي، وكنت دائما أنظر إليه، وهكذا نما خيالي. هناك قصة قصيرة للكاتب ريموند كارفر عن السقوط في بئر جافة، أنا أحب تلك القصة كثيرا.
هل حاولت النزول لبئر من قبل؟
لا، لا، لا، كما تعلمين الأمر خطير، فقط في مخيلتي. أحب الكهوف أيضا. عندما أسافر حول العالم وأرى كهف، فأنا أدخله، أحب الكهوف، ولكن لا أحب الأماكن المرتفعة.
تفضل الذهاب للأماكن المنخفضة عن الأماكن المرتفعة؟
يقول بعض الاشخاص أنها نوع من الاستعارة للعقل الباطني، لكنني مهتم جدًا بالعالم الخفي.
قبل بضع سنوات قلت في مقابلة مع مجلة “باريس ريفيو” إن القوة الدافعة لقصصك كانت “اختفاء، فبحث، فنتيجة”. هل تعتقد ان هذا ما يزال صحيحا؟
نعم فعلًا. هذه سمة كبيرة جدا في خيالي – فقدان شيء ثم البحث عنه ثم العثور عليه. غالبا تبحث شخصياتي عن شيء فقدوه. أحيانًا تكون فتاة، وأحيانًا قضية، وأحيانًا يكون هدف. لكنهم يبحثون عن شيء مهم، شيء بالغ الأهمية فقدوه. لكن عندما تعثر الشخصية عليه سيكون هناك نوع من خيبة الأمل. لا أعرف السبب، ولكن هذا نوع من أنواع المحفزات في قصص الخيال، البحث عن شيء والعثور عليه، ولكنها ليست نهاية سعيدة.
غالبا الشخصيات التي تكتب عنها شخصيات ضائعة، إما عاطفيًا أو وجوديًا. لا يجدون بيوتهم في هذا العالم.
إذا ما كان البطل سعيدًا، إذًا لا توجد هناك قصة على الإطلاق.
عادةً يحيط جو من الغموض رواياتك، وأحيانا تُحل الغموض أو تتركه، هل ذلك لأنك تحب ترك الأمور مفتوحة للقارئ؟ أم لأنك غير متأكد من الحل بنفسك؟
عندما أنشر رواية خيالية، يتصل بي الأصدقاء في بعض الأحيان ويسألونني “ماذا سيحدث بعد ذلك؟” أقول، “هذه نهاية الأمر”. لكن الناس يتوقعون تتمة للرواية. بعد أن نشرت “1Q84” فهمت كل شيء سيحدث بعد ذلك. كان بإمكاني أن أكملها، لكنني لم أفعل ذلك. اعتقدت أن الأمر قد يبدو وكأنه “Jurassic Park 4” أو “Die Hard 8”. لذلك لم أصرح بنهاية القصة وظلت داخلي، واستمتعت بها كثيرًا.
هل تعتقد أنك ستقوم بكتابة النهاية؟
لا أعتقد ذلك، ستظل داخلي. بطلة الرواية هي ابنة تنغو في عمر السادسة عشر، القصة مثيرة للاهتمام.
إذا الأمر ليس مثل “Die Hard 8″!
وهناك مقدمة للرواية.
في عقلك فقط؟
نعم.
يحاول بعض الكتاب أن ينتهوا بشيء مختلف تمامًا في كل رواية، ويميل البعض إلى صقل النهج الذي يفضلونه. أي نهج تتبعه أنت؟
أحب أعمال كازو إيشيجورو، إنه صديق لي. في كل مرة ينشر رواية جديدة تختلف عن الرواية السابق. هذا مثير للغاية، ولكن في حالتي، لا تختلف الأفكار والمواضيع كثيرا. لا أرغب في كتابة سلسلة من الروايات، لكن أجواء الروايات لا تختلف عن بعضها البعض. أنا مجرد شخص واحد، وأفكر بطريقتي الخاصة؛ لا أستطيع تغيير ذلك. لكنني لا أريد أن أكتب نفس الشيء مرارًا وتكرارًا.
يتميز أسلوبك في معظمه بالأفكار المعقدة أو كثافة المضمون، لكن الكتابة نفسها ليست معقدة ولا ثقيلة. فالجمل بسيطة وخفيفة. هل هذا التباين مقصود؟
الكثير من الكّتاب يكتبون عن أشياء صغيرة سطحية بأسلوب معقد وصعب. أعتقد أن ما أريد فعله هو كتابة أشياء جادة ومعقدة وصعبة بأسلوب سهل للغاية يسهل قراءته. من أجل كتابة هذه الأشياء الصعبة، عليك أن تكون على أتم الاستعداد للغوص عميقا. بالتالي، خلال الأربعين سنة التي كنت أكتب فيها، قمت بإنشاء طريقة لذلك، يشبه الأسلوب المادي – وليس تقنية فكرية. أعتقد أنك إذا كنت كاتبًا خياليًا وكنت ذكيًا جدًا، فلن تكتب، وإذا كنت غبيًا، فلن تكتب أيضا. عليك أن تجد موضع بينهما. وهذا صعب للغاية.
هل تعتقد أن أسلوبك يتضح للقارئ عند ترجمة أعمالك؟
نعم فعلا. لا أعرف السبب، لكن عندما أقرأ رواياتي مترجمة إلى اللغة الإنجليزية، أشعر أن ” أوه هذا أنا فعلًا”. الإيقاعات وأسلوب النثر، هي نفسها – تقريبا نفس الشيء.
أنت مترجم. قمت بترجمة روايات الكتاب سكوت فيتزجيرالد، وترومان كابوت، ورايموند كارفر، وغيرهم إلى اليابانية؛ الآن أنت تترجم “جون شيفر” ما الذي يجذبك إلى الكُتاب الذين تترجم لهم؟
الأمر بسيط. أترجم ما أحب قراءته. لقد قمت بترجمة جميع روايات “رايموند تشاندلر”. أنا أحب أسلوبه كثيراً. لقد قرأت “The Long Goodbye” “الوداع الطويل” خمس أو ست مرات.
عندما تترجم، عليك أن تأخذ صوت كاتب آخر. عليك أن تتقمص فيتزجيرالد أو تشاندلر شيفر. هل يمثل هذا تحدٍ لك، لا سيما وأنت أديب وتملك صوتك الأدبي؟
نعم بالفعل. أنا أحب سكوت فيتزجيرالد – وقد قمت بترجمة العديد من كتبه – لكن أعماله مختلفة تمامًا عن أعمالي، إنه جميل ومعقد للغاية. ومع ذلك، تعلمت الكثير من الأشياء من كتاباته – اسلوبه، أفترض، طريقة نظرته إلى العالم. يختلف أسلوب ريمون كارفر وعالمه عني، لكنني تعلمت منه كذلك.
جون شيفر هو مشروعك القادم للترجمة. لماذا شيفر؟
لماذا شيفر؟ استمتعت بقراءة قصصه القصيرة كثيرا على مر السنين، لكن شيفر ليس له شعبية في اليابان. قلة قليلة من الناس يقرؤون أعماله، لأنها ذات طابع أمريكي طاغ -كما أعتقد، في الخمسينات من القرن الماضي ولأناس من الطبقة المتوسطة. لا أعتقد أن العديد من القراء اليابانيين سيقدرون قصصه، لكنني أحبها، لذلك فهو يمثل تحدٍ بالفعل.
هل تتسلل بعض أساليب الكتاب الآخرين الى كتابتك حين تكتب؟
هناك تأثير على ما أعتقد. عندما بدأت الكتابة، لم يكن لدي مرشد، ولا معلم، ولا زملاء، ولا أصدقاء أدباء. فقط كنت وحيدًا. لذلك تعلمت الكثير من الأشياء من الكتب. عندما كنت طفلاً أحببت القراءة لأنني كنت طفلاً وحيدًا. لم يكن لدي أي إخوة أو أخوات. لم يكن لدي سوى الكتب والقطط والموسيقى بالطبع. لم أمارس أي رياضة. كنت من الأطفال الذين يحبون القراءة. عندما كنت في سن المراهقة أحببت الروايات الروسية: تولستوي ودوستويفسكي. وما تعلمته من تلك الكتب أنه كلما طالت كانت أفضل! في الجامعة، كان لدي الكثير من الزملاء الذين أرادوا أن يصبحوا مؤلفين، أما أنا فلم أعلم أنني كنت أتمتع بهذه الموهبة، لذا بدأت نادي موسيقى الجاز وجعلت من الموسيقى مهنتي.
هل تعزف على أي من آلات الموسيقى؟
عندما كنت طفلاً عزفت البيانو، لكن لم تكن لدي الموهبة. وعندما كنت في الخامسة عشر، Blakey وthe Jazz Messengers جاءوا إلى اليابان، حينها ذهبت إلى حفلهم الموسيقي. قبل ذلك لم أكن أعرف ما هو الجاز، لكن منذ تلك الليلة أصبحت من عشاق موسيقى الجاز المتحمسين. قمت بجمع تسجيلات الجاز لما يقارب الخمسين سنة. زوجتي دائما تشكو، كما تعلمين. لديّ الكثير من تسجيلات الجاز في منزلي. لكنني تعلمت من الموسيقى الكثير عن الكتابة. أعتقد أن هناك ثلاثة عناصر مهمة: الإيقاع والانسجام والارتجال الحر. تعلمت هذه الأشياء من الموسيقى، وليس من الأدب. وعندما بدأت الكتابة، حاولت أن أكتب كما لو كنت أعزف الموسيقى.
كلا والِديك درّسا الأدب. هل كانوا سعداء بقرارك بالتأليف؟ هل أرادوا منك أن تكون مهندسًا أو طبيبًا؟
لا أعتقد ذلك. لا أعرف ما الذي توقعوه مني.
المرة الأخيرة التي تحدثنا فيها، قلت بأن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 9\11 غيّرت العالم – ليس العالم الحقيقي فقط، ولكن العالم الخيالي الذي تخوضه. أتساءل إذا ما كان للكوارث الأخرى تأثير مماثل – هل تشعر أن أحداث تسونامي الذي ضرب اليابان في 2011 وكارثة فوكوشيما النووية غيرت من كتاباتك الخيالية.
نعم فعلا. بعد زلزال كوبي في عام 1995، كتبت مجموعة من القصص القصيرة بعنوان “بعد الزلزال”. كوبي هي مسقط رأسي، دُمرت البلدة بأكملها بما في ذلك منزل والديّ. كنت في ماساتشوستس في ذلك الوقت، لقد كنت في الولايات المتحدة لمدة أربع سنوات؛ كنت مغتربًا. لكنني رأيت المشاهد على التلفاز. وكروائي كنت أفكر ماذا يمكنني أن أفعل حيال الزلزال؟ اعتقد أن ما يمكنني فعله هو تخيل ما حدث في الزلزال، لذلك تخيلت الأمر. في معظم الحالات لا أبحث عن الأمور عندما أكتب رواية، لأن الخيال هو ثروتي وهديتي، أريد أن أستغلهم استغلالا كاملا. لكن في نفس العام وبعد شهرين، وقع هجوم بغاز السارين على قطار أنفاق في طوكيو. لم أكن في اليابان حينها. قرأت جميع المقالات في الصحف والمجلات، لكن لم أجد ما أردت معرفته. أردت أن أعرف ما الذي حدث بالفعل ذلك اليوم في تلك القطارات. كنت أرغب في سماع الأحداث، واستنشاق رائحة الغاز في قطار مكتظ. لذلك قررت أن أبحث عن هذه الأشياء بنفسي. قابلت ضحايا الهجوم بغاز السارين وطرحت عليهم أسئلتي الخاصة. أخبروني بما حدث والأشخاص الذين كانوا في القطار في تلك اللحظة. كتبت الأحداث ونشرتها في كتاب غير خيالي بعنوان “تحت الأرض”. فعلت ذلك لأن لا أحد آخر قام بفعله، وأنا من سأل الأسئلة حين أن فضولي كان يقودني. استغرق الأمر عامًا لإجراء تلك المقابلات وأعتقد أن تلك السنة غيرتني، كانت تجربة عظيمة. لم أكتب أي شيء على الإطلاق تلك السنة. لقد استمعت للتو إلى تلك الأصوات. الأصوات لا تزال في داخلي. أثق في تلك الأصوات، تلك الأصوات الحقيقية. كان الأشخاص الذين يستقلون القطار أشخاصًا عاديين وليسوا مميزين. كانوا يتنقلون في قطار مكتظ في الصباح في طوكيو، فجأة قام أحدهم بكسر الأكياس البلاستيكية لغاز السارين، توفيّ بعضهم. كان وضعًا سرياليًا، لكن أصواتهم أصوات عادية. لم يكونوا أفراد طائفة أم شينريكيوعاديون، حيث كانوا يبحثون عن نوع من الحقيقة أو الحقيقة المطلقة. لكن الضحايا كانوا ركاب عاديين في طريقهم إلى العمل. لقد قابلت أفراد الطائفة أيضًا، لكن أصواتهم لم تثر إعجابي.
ما الذي جعلك تروي أحداث الزلزال في رواية خيالية فيما رويت أحداث الغاز كرواية صحفية؟
كوبي هي مسقط رأسي، فقد كان الأمر ذو أولوية عندي. لدي العديد من الأصدقاء هناك. إذا ما التقيت هؤلاء الأشخاص، كنت سأكتئب وأحزن للغاية. لكن في الخيال بإمكاني تكوين عالم خاص بي، لذلك كان الأمر أسهل. يمكن للعنف أن يحفر حفرة في عقلك، أو في جسدك. يمكن أن يقطع شريانا مهمًا للغاية. وقبل الزلزال اعتقدنا أن الأرض قوية وصلبة، ولكن ليس بعد الآن. يمكنها أن تضطرب، ومتقلبة، ولينة. أعتقد أن هذا ما أردت أن أصل اليه.
بعد ذلك، كان هناك الكثير من الكوارث، أحداث ١١\٩، تسونامي وغيرها. قمت بسؤال نفسي ما الذي يمكنني فعله للأشخاص الذين عانوا في تلك الكوارث، وفكرت أن ما يمكنني فعله هو كتابة قصة جيدة. لأنه عندما أكتب قصة جيدة يمكننا أن نفهم بعضنا فهما أفضل. إذا كنت قارئًا وأنا كاتب فأنا لا أعرفك، لكن في عالم الخيال في العالم الخفي، يوجد ممر سري بيننا؛ يمكننا إرسال رسائل إلى بعضنا دون وعي. لذلك أعتقد أن هذه طريقة يمكنني المساهمة بها.
عندما تكتب فأنت ترسل رسالة، لكن كيف تتلقى واحدة؟
لا أعلم، لا أعرف. ربما سنجد طريقة!
بعد نشر رواية “Kafka on the Shore“”كافكا على الشاطئ”، أنشأت موقع على الإنترنت يطرح الناس فيه أسئلة حول الرواية أو اطلاعك على نظرياتهم حولها – وأجبت على بعض الأسئلة. فلماذا فعلت ذلك؟ ولماذا مع هذه الرواية بالذات؟
كنت فضوليًا. كانت لفترة محدودة لكنني تلقيت الكثير من رسائل البريد الإلكتروني. لا أذكر عددهم، ربما ثلاثون ألفًا. لكنني قرأتها كلها – أصبت عيني! وأجبت ربما على ثلاثة آلاف رسالة. لقد كان عملاً شاقًا، لكنني أعتقد أنني حصلت على معلومات لم تكن واضحة عن نوع الأشخاص الذين كانوا يقرأون رواياتي، وماذا كانوا يفكرون في أعمالي. طرح بعضهم أسئلة غبية. سألني أحدهم عن أطراف الحبّار؛ الحبار لديه عشرة أطراف، وأراد أن يعرف ما إذا كانت الأيادي أم الأقدام. لماذا يسألني عن ذلك؟ كان جوابي: ضع عشر قفازات وعشرة جوارب بجانب سرير الحبار، عندما يستيقظ سيختار إما الجوارب أو القفازات وسيكون لديك إجابة. لا أعرف إذا كان الحبار ينام على السرير أم لا…. لكنني استمتعت بمعظم الأسئلة.
كانت تلك طريقة للتواصل مع القراء. أعلم أنك في اليابان لا ترغب في المشاركة في المناسبات العامة أو المشاركة في البرامج الحوارية. لماذا؟
أنا كاتب، وأن أكتب في مكتبتي هي متعتي. قررت في وقت مضى أنني لن أفعل أي شيء سوى الكتابة – كان هذا قراري. ولكن في الآونة الأخيرة بدأت في لعبة القرص (disk-jockey). لقد طُلب مني أن أجرب القرص في محطة راديو اذاعية في طوكيو، وهذا ما أفعله اليوم.
*- disk-jockey الشخص الذي يختار الموسيقى في محطات الراديو.
لماذا وافقت؟
أخبروني أنه يمكنني اختيار الموسيقى التي أحبها والتحدث عما يعجبني لمدة خمس وخمسين دقيقة. لذلك فكرت، لماذا لا أجرب؟ اختياراتي انتقائية للغاية – كل شيء من Billie Holiday إلى Maroon 5.
أعتقد أنك قلت ذات مرة أن تكون كاتبًا في اليابان فيه الكثير من البهرجة وهي مهنة عامة، وأنت ما زلت تقوم بما اعتدت عليه. كيف تجمع بين كل هذا؟
بصراحة في البداية لم أكن سعيدًا في عالم الأدب في اليابان. كنت غريباً – خروف أسود، ومتسلل إلى عالم الأدب الياباني التقليدي. قال بعض الناس أنني كنت صوتًا جديدًا في الأدب الياباني، وقد وصفني بعض الأشخاص بأنني فاسق. لذلك كنت مرتبك ومندهش. لم أكن أعرف ما الذي يحدث. كان الأمر مثل “أليس في بلاد العجائب”. لذلك هربت من اليابان وذهبت للخارج. أولاً ذهبت إلى إيطاليا واليونان، أمضيت عامين أو ثلاثة، ثم كتبت “الغابة النرويجية”، وكره الناس تلك الرواية في اليابان.
باعت أكثر من مليوني نسخة!
لقد بيعت أكثر من مليوني نسخة، لكن الناس كرهوني، لذلك ذهبت للخارج مرة أخرى. ذهبت إلى برينستون – نيو جيرسي. إنه مكان ممل — جميل لكنه ممل. ثم ذهبت إلى بوسطن – جامعة تافتس. كان هناك ملعب لكرة القاعدة – فينواي – كان ذلك مسلٍ.
ثم بعد الزلزال وهجوم غاز السارين، هل شعرت أنه يجب عليك العودة إلى اليابان؟
نعم فعلا. في عام 1995، شعرت أنه يجب عليّ العودة إلى بلدي ومعرفة ما إذا كان هناك شيء يمكنني القيام به للشعب، ليس من أجل الدولة، وليس من أجل الوطن، وليس من أجل المجتمع، ولكن من أجل شعبي – هذه كانت فكرتي.
ما الفرق بين الأمرين؟ بين الدولة وبين الشعب؟
الناس يشترون كتبي. أما الدولة فلا تشتري كتبي.
هل تنظر إلى أعمالك أنها أقرب إلى الأعمال الأدبية اليابانية أم أقرب إلى الأدب الغربي؟
لا أفكر بتلك الطريقة. قصصي هي قصصي، لا تنتمي إلى أي فئة. لكنني أكتب باللغة اليابانية، ومعظم شخصياتي يابانيين. لذلك أعتقد أنني كاتب ياباني، وأعتقد أن أسلوب الكتابة لا ينتمي إلى أي مكان.
في اليابان أعتقد أن معظم قراؤك في البداية كانوا شباب. كان لديك عدد كبير من الأتباع بين الشباب.
نعم، إنه أمر غريب للغاية. عندما بدأت الكتابة، كان قرائي في العشرينات وأوائل الثلاثينات. وبعد أربعين عامًا لا يزال قرائي في العشرينات وأوائل الثلاثينات من العمر. الشيء الجيد هو أن بعض جيلي الأول من المعجبين ما زالوا يقرؤون كتبي، كما أن بناتهم وأبنائهم يقرؤونها أيضًا. عندما يقرأ ثلاثة أو أربعة أشخاص من عائلة واحدة الكتاب نفسه يسعدني جدًا سماع ذلك. صديق لي لديه أطفال في سن المراهقة والعشرينات، يقول إنهم بالكاد يتحدثون الآن، الوالدين والأولاد، الموضوع الوحيد الذي يتحدثون عنه هو كتبي.
هناك مشهد أردت أن أقتبسه من “مقتل الكومنداتور”: “واصل قائد الكومنداتور مسح لحيته براحة يده كما لو كان يتذكر شيئا. “فرانز كافكا كان مولعا جدا بالمنحدرات،” قال. “لقد انجذب إلى جميع أنواع المنحدرات. كان يحب أن ينظر إلى المنازل المبنية وسط المنحدرات. كان يجلس على جانب الشارع لساعات، ويحدق في المنازل التي بنيت بهذه الطريقة. لم يتعب أبداً وكان يجلس هناك، مائلاً برأسه إلى جانب واحد، ثم يعدله مرة أخرى. نوع غريب من الرفقة. هل تعلم هذا؟ “فرانز كافكا والمنحدرات؟ قلت: “لا، لم أعلم”. لم أسمع بذلك قط. “لكن هل معرفة ذلك تجعل المرء يقدر أعماله أكثر؟” إذا كنا نعلم عن مراوغاتك، وعلى سبيل المثال أنت تحب تأمل المنحدرات، هل هذا يساعدنا على تقدير أعمالك؟
فرانز كافكا أحب المنحدرات؛ هذه كذبة اختلقتها. لكن هل هذا جيد؟ من المحتمل جدًا أن فرانز كافكا أحب المنحدرات.
من الممكن.
هل تعلمين أن بعض الأشخاص يقومون باقتباس ذلك! انا اختلقتها! لقد اختلقت أمورًا كثيرة.
إنه خيال. يمكنك اختلاق بعض الأمور. ولكن ماذا لو كان الأمر صحيحاً؟ على سبيل المثال، إذا عرفنا أنك تحب القطط، هل هذا يجعلنا نفهم أعمالك أفضل؟
اسألي زوجتي!
هل أعمالك مفهومة لزوجتك أكثر لأنها تعرفك؟
لا أدري، لا أعرف. تقول إني لست كاتبها المفضل. لكنها دائما تنتقد عملي بجدية. إنها أول قارئ لي، لذلك عندما أنتهي من الكتابة أعطيها المسودة، تقرأها وتعيد المسودة مع مائتي ملاحظة. انا أكره الملاحظات كثيرًا، تقول لي “يجب عليك إعادة كتابة هذه الأجزاء!”
إذا اخبرتك بإعادة الكتابة، هل تعيدها؟
نعم، ثم أعيدها إليها وهذه المرة تعيدها مع مئة ملاحظة. عدد أقل من الملاحظات، وهذا أمر رائع.
ــــــــــ
– ترجمة نانا زكريا.