بين أُلفة العزلة ووحشة الوحدة
وأنا في السابعة والثمانين من عمري، أعيش في عزلة عمن حولي. وحدي، أعيش في بيت المزرعة المكون من طابق واحد، والذي بني في عام 1803 – حيث عاشت عائلتي منذ الحرب الأهلية. عاشت جدتي كيت في المنزل وحدها بعد وفاة جدي، وزرنها بناتها الثلاث. في عام 1975 توفيت كيت عن عمر يناهز السابعة والتسعين، وتوليتُ أنا المسؤولية. بعد أربعين عامًا، أمضيت أيامي وحدي على أحد الكرسيين، مستلقٍ على كرسي أزرق محشو في غرفة المعيشة أنظر من النافذة إلى الحظيرة القديمة غير المصبوغة، ذهبية وخالية من أبقارها ومن الحصان رايلي. ألقي نظرة على الخزامى، أنظر إلى الثلج. على كرسي الردهة أجلس وأكتب هذه الفقرات وأسطر أحرفي. كما أنني أشاهد الأخبار، غالبًا دون الاستماع إليها، وأستلقي في راحة هائلة من العزلة. يرغب الناس في زيارتي، لكنني في الغالب أرفض مع الحفاظ على صمتي المستمر. تأتي ليندا ليلتين في الأسبوع. ونادرًا ما يزورني صديقاي العزيزين من نيو هامبشاير، يعيشان الآن في مين ومانهاتن. بضع ساعات في الأسبوع، تغسل كارول ملابسي وتحسب حبوب دوائي وتنظف المكان ورائي. إنني أتطلع إلى وجودها وأشعر بالراحة عندما تغادر. بين الحين والآخر، وخاصة في الليل، تفقد العزلة قوتها الناعمة وتسيطر الوحدة. وأكون في أشد حالات امتناني عندما تعود العزلة.
ولدت عام 1928، كنت طفلًا وحيدًا خلال فترة الكساد الكبير، كان هناك الكثير ممن هم مثلي، وكانت مدرسة سبرينغ غلين الابتدائية تضم ثمانية صفوف من الأطفال دون أشقاء. من وقت لآخر، كونت صديقًا خلال طفولتي، لكن الصداقات لم تدم طويلاً. أحب تشارلي أكسل صنع نماذج الطائرات من خشب البلسا والمناديل الورقية، كما أنني استمتعت بذلك، لكني كنت أخرق وسكبت الأسمنت على الأجنحة الورقية. نجحت نماذجه بالطيران. وبعد مدة، وجدتني أجمع الطوابع، وكذلك فرانك بنديكت، ثم مللت من الطوابع. في الصف السابع والثامن كن هنالك فتيات. أتذكر أنني استلقيت مع باربرا بوب على سريرها، مرتدية ملابسها بالكامل بينما كانت والدتها تنظر إلينا بقلق. في معظم الأوقات، كنت أحب البقاء وحدي بعد المدرسة، والجلوس في غرفة المعيشة المظلمة. كانت والدتي تتسوق أو تلعب لعبة الجسر بالورق (Bridge) مع أصدقائها؛ في حين أن والدي أضاف عدة مجسمات لمكتبه؛ بينما كنت أسرح في منتصف اليوم.
حين أتى الصيف، غادرت ضاحية كونيتيكت لأعيش مع جدي في مزرعة نيو هامبشاير. شاهدته وهو يحلب سبع بقرات هولستين صباحًا ومساءً. كنت أُعد لنفسي شطيرة بصل – شريحة سميكة بين قطع الخبز العجيب للغداء. لقد تحدثت عن هذه الشطيرة من قبل.
في الخامسة عشرة، ذهبت إلى إكستر في العامين الأخيرين من المدرسة الثانوية. كانت إكستر صعبة أكاديمياً وجعلت من هارفارد تبدو سهلة، لكنني كرهتها – خمسمائة صبي يعيش كل إثنين في غرفة واحدة. كانت العزلة نادرة، وقد جاهدت للعثور عليها. كنت أمشي طويلًا بمفردي، وأدخن السيجار. وجدت لنفسي غرفة مفردة نادرة وبقيت فيها أقرأ وأكتب بقدر ما أستطيع. ليلة السبت، جلس بقية طلاب المدرسة وأعضائها في ملعب كرة السلة، يشاهدون فيلمًا في هذيان. بقيت في غرفتي منعزلًا مغمورًا بالسعادة.
في الكلية، كانت أجنحة صالات النوم المشتركة إما غرف نوم مفردة أو مزدوجة. ولمدة ثلاث سنوات، عشت في غرفة نوم واحدة مزدحمة بكل ما أمتلك. وفي سنتي الأخيرة تمكنت من تأمين جناح واحد: غرفة نوم وغرفة جلوس وحمام في أوكسفورد، كان عندي غرفتان لنفسي. وهذا ما حصل عليه الجميع. بعد ذلك حصلنا على رفقة. ثم كتبت كتبا. أخيرًا، كان عليّ البحث عن وظيفة، مما سبب لي الانزعاج. مع زوجتي الأولى – يتزوج الناس صغارًا في ذلك الوقت؛ كنت في الثالثة والعشرين من العمر وزوجتي في العشرين – استقريت في آن أربور، أدرّس الأدب الإنجليزي في جامعة ميشيغان. أحببت المشي صعودًا وهبوطًا في قاعة المحاضرات، والتحدث عن ييتس وجويس أو قراءة قصائد توماس هاردي وأندرو مارفيل بصوت عالٍ. لم تكن هذه الأفعال بالملذات المنعزلة، لكنني في المنزل، أمضي يومي في غرفة صغيرة في العلية، أؤلف القصائد. كانت زوجتي ذكية للغاية، رياضية أكثر من كونها أدبية. عشنا تحت سقفٍ واحد منفصلين. وللمرة الوحيدة في حياتي أحببت التجمعات الاجتماعية: طبيعة مدينة آن أربور لاقامة حفلات الكوكتيل. وجدت نفسي أتطلع إلى عطلات نهاية الأسبوع، إلى الحفلات المزدحمة التي سمحت لي بالابتعاد عن زواجي. كانت هناك مناسبتان أو ثلاث، يوم الجمعة ويوم السبت غالبا، مما سمح للأزواج بالهجرة من غرفة معيشة إلى غرفة معيشة أخرى. تغازلنا وشربنا وتجاذبنا أطراف الحديث – دون أن نتذكر يوم الأحد ما قلناه ليلة السبت.
بعد ستة عشر عامًا من الزواج، تطلقتُ وزوجتي.
لمدة خمس سنوات عشتُ مرة أخرى، ولكن بدون أُلفة العزلة. استبدلت بؤس الزواج السيئ ببؤس البوربون. واعدت فتاة كانت تشرب زجاجتين من الفودكا في اليوم. أواعد ثلاث أو أربع نساء في الأسبوع، وأحيانًا ثلاث نساء في اليوم. تباطأت قصائدي وتوقفت. حاولت أن أصدق أنني أعيش في سعادة. لم أكن سعيدًا.
كانت جين كينيون تلميذتي. كانت ذكية ومؤلفة قصائد، مضحكة وصريحة في الفصل. كنت أعلم أنها تعيش في عنبر للنوم بالقرب من منزلي، لذلك طلبت منها ذات ليلة أن تذهب للمنزل بينما كنت أحضر اجتماعاً استمر لمدة ساعة. عندما عدت إلى المنزل، ذهبنا إلى الفراش معا، لاحقًا طلبت منها تناول العشاء، والذي كان دائمًا في عام 1970 يشمل وجبة الإفطار. رأينا بعضنا مرة في الأسبوع، في حين أننا كنا نواعد آخرين، ثم مرتين في الأسبوع، ثم ثلاث أو أربع مرات في الأسبوع، ولم نواعد شخصا آخر بعد ذلك. ذات ليلة تحدثنا عن الزواج وسرعان ما قمنا بتغيير الموضوع، كنت أكبرها بتسعة عشر عامًا، وإذا ما تزوجنا، فسوف تكون أرملة لفترة طويلة. تزوجنا في أبريل 1972. عشنا في آن أربور لثلاث سنوات، وفي عام 1975 غادرنا ميشيغان إلى نيو هامبشاير. لقد عشقت منزل العائلة القديم.
لما يقرب العشرين عامًا، استيقظت قبل جين وأحضرت لها قهوتها في السرير. وكانت عندما تستيقظ تأخذ الكلب جاس في نزهة. ثم انسحب كل منا إلى مكتبه للكتابة، على طرفي النقيض من منزلنا المكون من طابقين. غرفتي كانت في الطابق الأرضي في المقدمة، بجوار الطريق الرابع. ومكتبها كان في الطابق الثاني في الخلف، بجانب المرعى القديم لجبل راجيد. و بين وحدتنا المزدوجة، كتب كل منا الشعر في الصباح، نتناول الغداء ونأكل الشطائر ونتجول دون التحدث إلى بعضنا البعض. بعد ذلك، كنا نأخذ قيلولة لمدة عشرين دقيقة لاستجماع طاقتنا لبقية اليوم، نحتضن بعضنا البعض، وبعد ذلك تسرع جين من السرير إلى مكتبها.
لعدة ساعات بعد ذلك، أعود إلى عملي في مكتبي. وفي وقت متأخر من بعد الظهر، أقرأ بصوت عالٍ لجين لمدة ساعة. قرأت “المقدمة” لردزورث، و”السفراء” لهنري جيمس مرتين، “العهد القديم” لوليام فولكنر، والمزيد من هنري جيمس، شعراء القرن السابع عشر. قبل العشاء، شرب البيرة وتصفحتThe New Yorker بينما كانت جين تطبخ، وهي تحتسي كأسًا من النبيذ. ببطء، أعدت عشاءًا لذيذًا – ربما شرائح لحم العجل مع مرق الفطر والثوم، وربما الهليون الصيفي من الحقل المقابل للشارع – ثم طلبت مني أن أحمل أطباقنا إلى المائدة أثناء إشعال الشمعة. وخلال العشاء تحدثنا عن أيامنا المنفصلة.
أمضينا فترات بعد الظهر في الصيف بجوار إيجل بوند، على شاطئ صغير الحجم بين الضفادع والمنك والقنادس. استلقت جين تحت الشمس، بينما كنت أقرأ الكتب على كرسي مصنوع من الحبال والقماش. بين الحين والآخر، كنا نغوص في البركة. في بعض الأوقات شوينا النقانق لتناول عشاء مبكر. بعد عشرين عامًا من زواجنا الرائع، من العيش والكتابة معًا في عزلة مزدوجة، توفيت جين بسبب سرطان الدم في السابعة والأربعين، في 22 أبريل 1995.
اليوم، 22 أبريل 2016، مر على وفاة جين أكثر من عقدين. في وقت سابق من هذا العام، في السابعة والثمانين، حزنت عليها بطريقة لم أحزنها من قبل. كنت مريضًا وظننت أنني أموت. في كل يوم من احتضارها كنت بجانبها – سنة ونصف-. كان من المؤسف أن تموت جين في سن صغيرة جدًا، وكان من العادل أن أكون معها كل ساعة من كل يوم. في كانون الثاني (يناير) الماضي حزنت مرة أخرى، هذه المرة لأنها لن تكون بجانبي في احتضاري.
المقال الأصلي على صفحة The New Yorker
ترجمة; نانازكريا