في أيام الصيف الساخنة، وفي كل مساء في تمام الساعة الثامنة، نجلس أنا وجدتي أمام التلفزيون بحماس. تمتلئ ساعتنا التالية بأحداث عن فقدان الذاكرة التي تظهر على الشاشة، وتآمر الحموات، وتصريحات الحب المليئة بالدموع تحت المطر. ولكن ما قد يبدو كمَشاهِد تلفزيونية طويلة عادية هو أكثر بكثير من ميلودراما ومسرحيات: حوارات كاملة في مدينة هوكين التايوانية، إنها قطع أثرية للغة على وشك الاحتضار.
يتوقع اللغويون أن 90٪ من اللغات ستصبح منسية في القرن المقبل، وهذا الانقراض الجماعي ليس من قبيل التكهُّن. في ظل الحكم الاستعماري، كان تعلُّم لغة الهوكين الأصلية لجدتي أو التحدث بها جنبًا إلى جنب مع العشرات من لغات السكان الأصليين أمرًا غير قانوني بموجب القانون. مُنعت المدارس من التدريس باللهجات المحلية، تحولت المؤسسات الرسمية إلى العمل بلغة الماندرين المهيمنة، ووُصِمَت اللغات المحلية بأنها فظة وغير مناسبة خلال عقود من القمع من سياسات اللغة المهيمنة والإمبريالية، وأصبحت علامة على التخلف. اليوم، أكثر من نصف المتحدثين الأصليين للغة الهوكين لم يعودوا يستخدمونها في منازلهم.
ولسوء الحظ، هذا الإسكات المأساوي ليس ممارسة نادرة، ففي الخمسينيات من القرن الماضي، أُجبر الآلاف من الأطفال الأمريكيين الأصليين على التخلي عن لغتهم الأم في المدارس الداخلية التي هُيّئت للقضاء على هويات السكان الأصليين. حتى يومنا الحاضر، تتلاشى اللغات على أيدي صراعات القوة الاقتصادية والاجتماعية، حيث يتم الضغط على المجتمعات الصغيرة لتبني اللغة السائدة التي تحكم العمل والترفيه والحياة اليومية. في الواقع، كاليفورنيا ألغت قانون “اللغة الإنجليزية فقط” قبل أربع سنوات لا أكثر.
لكن ألا يجب أن نشعر بالارتياح لأننا لا نعيش في جنون مجتمع برج بابل؟ بينما تعمل اللغة المشتركة بلا شك على تبسيط الاتصالات العالمية، فإن اللغة ليست مجرد أداة لمفاوضات العمل أو نميمة المشاهير. اللغة غارقة في التاريخ والتراث، فهي أحد أعمدة الثقافة التي بنت الإمبراطوريات القديمة، وخلدت النصوص الدينية المقدسة، وخزنت قرونًا من الحكمة الطبيعية والطبية. مصاحبة سجلات الحضارات السابقة جنبًا إلى جنب مع الشعر والموسيقى والفولكلور على المراوغات القواعدية والنحوية للغة.
يمتد تأثير اللغة أيضًا إلى ما وراء الماضي للتأثير على طرق التفكير في الوقت الحاضر. هل تساءلت يومًا عن سبب كون “الموت” مؤنثًا في بعض اللوحات ومذكرًا في لوحات أخرى؟ اتضح أن تحديد جنس الأسماء في اللغة الأم للفنان يلعب دورًا في كيفية اتخاذ القرار بإضفاء الحيوية على المفاهيم المجردة. بعيدًا عن الفن، وجد الباحثون أيضًا روابط بين اللغة، وتصورات الوقت، واللون، والعاطفة.
مشاريع التوثيق وقوانين الحماية موجودة بالفعل في الخطوط الأمامية في المعركة ضد موت اللغة؛ لكن لن تكون لديهم فرصة قتال حتى ندرك أن تقليم شجرة اللغة يقتل أكثر من مجرد كلمات. وإذا لم نفعل ذلك، فسيتم تحويل غاباتنا الغنية بالتنوع اللغوي إلى أراضٍ قاحلة، غير قادرة على دعم الثقافات والشعوب التي ازدهرت في السابق.
المقال على موقع نيويوركر تايمز.
ترجمة; نانا زكريا